لم تدرك من النظرة الأولى اختلاف السيدة حفيدة الفلاحي والسيدة كنزة اللغشاوط والآنسة فاتحة روسطان عن سائر النساء الريفيات في المغرب. نساء يعشن في منطقة نائية تسمى بو الروس في محافظة الرحامنة التي تبعد نحو 320 كم عن العاصمة المغربية الرباط، يعتنين بأسرهن، وحياتهن لا تتعدى كونها حياة ريفية رتيبة. لكن هذا لا يتعدى كونها نظرة سطحية. فخلافاً لجل النساء الريفيات في البلد، نرى أن هؤلاء النسوة يتمتعن بمستوى أعلى من الاستقلالية والقرارات الاستباقية في كثير من الشؤون. وفوق ذلك كله، يتمتعن بدرجة من الاستقلالية المالية التي تمكنهن من دعم أسرهن.
وقد شهدت حياتهن تغيرات منذ تأسيس جمعيات المرأة في منطقتهن عام 2008. فما قد بدأ كمبادرة صغيرة تقتصر على أربع نساء قد تطور اليوم ليصبح عملاً يؤمن وظيفة لـ 30 امرأة من القرى المجاورة.
وتقوم هذه الجمعية التعاونية التي وُفقت في التسمية التي أطلقتها على نفسها "الألفية الثالثة" بإنتاج وتسويق وبيع طيف من المنتجات ذات القيمة المضافة كالكُسكُس – الطبق المحلي المصنوع من محاصيل عديدة كالقمح والأرز والذرة والصبار.
ولكل من النساء اللواتي يعملن هنا، بقيادة أمين عام الجمعية التعاونية السيدة حفيدة الفلاحي، قصة مختلفة لكن يجمع بينهن هدف مشترك، ألا وهو كسب العيش لصالحهن ولصالح أسرهن وإيجاد فرص توظيف لغيرهن من النساء في مجتمعهن.
لقد كان الصبار بأنواعه المختلفة المكون الرئيسي الذي يدخل في كثير من المنتجات لفترة طويلة. لكن نظراً لإصابته بحشرة الدودة القرمزية التي أتت على كامل نباتات الصبار في المنطقة، كان عليهن البحث عن بديل لهذا النبات. ليظهر بعدئذ الكينوا على الساحة.
صحيح أن إدخاله لأول مرة إلى المغرب يرجع إلى عام 2000، إلا أن الكينوا كان قد وصل إلى المحافظة عام 2009، لكنه لم يزدهر نظراً لمحدودية إمكانية الوصول إلى أصناف عالية الغلة وبمستوى جيد من التكيف، فضلاً عن غياب الممارسات الملائمة لإدارة المحصول، وضعف سلاسل القيمة، ومحدودية الطلب من جانب الأسواق.
عندئذ وصل المركز الدولي للزراعة الملحية (إكبا) إلى الجمعية التعاونية من خلال مشروع الكينوا في الرحامنة لإدخال أفضل الطرز الوراثية للكينوا من حيث الإنتاجية، حيث تم استنباطها بعد سنوات من الأبحاث التي عمل عليها إكبا. ولعل الإنتاجية الجيدة التي اتسمت بها تلك الطرز الوراثية وسط الظروف المحلية، أدت إلى ارتفاع الطلب على هذا المحصول بشكل ملحوظ. وبدأت الكثير من النسوة في الجمعية بزراعة هذه الطرز الوراثية في مزارعهن، بمن فيهن السيدة حفيدة الفلاحي.
يتسم الكينوا بمستوى تغذوي مرتفع فضلاً عن تحمله للإجهاد. إذ يحتوي هذا المحصول "الخارق"، بحسب ما أطلق عليه، على كافة الأحماض الأمينية الأساسية الثمانية وعلى كثير من المغذيات المجهرية. كما أنه خالٍ من الغلوتن، ويحتوي على ضعفي كمية البروتين الموجودة في الذرة والشعير والقمح. فضلاً عن إمكانية زراعته في ظروف متطرفة للتربة والمناخ، ما يجعل من الكينوا خياراً عظيماً لدى المزارعين أصحاب الحيازات الصغيرة في المناطق الهامشية كمنطقة بو الروس.
تقول السيدة حفيدة الفلاحي: "أسست جمعيتنا التعاونية في منطقة ريفية تعاني من الفقر والجفاف. وقد جمعت هذه الجمعية التعاونية بين النساء الفقيرات من شتى المناطق ووفرت لهن الأعمال. واليوم ننتج 30 نوعاً من الكسكس التقليدي من الدخن والجوجوبا والصبار والذرة وغيرها من المحاصيل. كما بدأنا مؤخراً بفضل المشروع باستخدام الكينوا في صناعة الكسكس الخالي من الغلوتن."
وتضيف: "تلقت الجمعية التعاونية من خلال المشروع بذور الكينوا ومعدات تصنيعه. كما وفر المشروع التدريب اللازم لإنتاج الكينوا وتصنيعه، فضلاً عن أنه ساعد على الترويج لمنتجاتنا بما في ذلك الكسكس المصنوع من الكينوا. كذلك سهل المشروع مشاركتنا في معارض مختلفة كالمعرض الزراعي الدولي في مكناس SIAM، حيث عرضنا منتجاتنا وخدماتنا. واستطعنا أيضاً دعم الكثير من الشابات اللواتي تسربن من المدارس بسبب المعوقات المالية."
وبتمويل من مركز ابحاث التنمية الدولية الكندي (IDRC/CRDI)، يقوم إكبا بتنفيذ المشروع في محافظة الرحامنة بالتعاون مع جامعة محمد السادس متعددة التخصصات التقنية (UM6P) ووزارة الفلاحة والصيد البحري والتنمية القروية والمياه والغابات في المغرب.
تقول الآنسة فاتحة روسطان، إحدى الشابات العاملات في التعاونية والمسؤولة عن الشؤون المالية: "كان علي أن أتوقف عن الدراسة. لكني بدأت بالعمل مع الجمعية التعاونية منذ سبع سنوات، حيث حضرت خلال هذه الفترة العديد من برامج التدريب، وكان بوسعي اكتساب الخبرة من خلال حضور عدد من ورشات العمل والمعارض. وبمساعدة الجمعية، بات بإمكاني إكمال تعليمي الاحترافي وكسب الدخل لدعم نفسي وأفراد أسرتي. فالجمعية التعاونية تلعب دوراً غاية في الأهمية ضمن هذه المنطقة الجافة التي تعيش حالة الفقر."
أما السيدة كنزة اللغشاوط، عضو الجمعية وهي في أواخر الستينات من العمر، فمعروفة بخبرتها بإعداد الكسكس، حيث تتحدث عن أرباحهن التي شهدت زيادة ملحوظة منذ أن بدأن بإدخال الكينوا في منتجاتهن.
تقول: "أسير كل يوم مسافة نحو خمسة كيلومترات من منزلي إلى الجمعية التعاونية. وفي هذا المقام أود أن أشكر الجمعية على زيادة دخلي وتحقيق تغيير إيجابي في حياتي. لقد حضرت الكثير من المعارض كجزء من عملي. لا شك أن هذه الأعمال قد ساعدت العديد من النساء مثلي لدعم تعليم أولادهن."
إضافة إلى ما سبق، يعمل علماء إكبا مع جامعة الحسن السادس على تقييم الطرز الوراثية في محطة التجارب في الجامعة في بن جرير، عاصمة محافظة الرحامنة، وغيرها من المزارع.
يقول السيد يونس جناوي من جامعة الحسن السادس أن جهودهم البحثية تكللت بالنجاح. "وجدنا أن الطرز الوراثية المستمدة من إكبا تتسم بتكيف جيد وإنتاجية مرتفعة جداً، فهي مقاومة للجفاف والملح. وأنا على قدر كبير من التفاؤل حيال مستقبل المحصول، الذي يشهد تزايداً سنة تلو الأخرى من حيث مساحته المزروعة وإنتاجه على حد سواء. آمل بأن يعتمد المزارعون زراعة محصول الكينوا لتحسين الدخل لديهم. لقد اتسمت هذه الطرز الوراثية، لاسيما Q5، بإنتاجية عالية جداً، ونحن نعمل على تطوير الممارسات الزراعية الفضلى."
هذا ومن المرتقب أن يفيد هذا المشروع، الذي بدأ عام 2017، ما يربو على 1000 مزارع مع أفراد أسرهم.
ويُذكر أن المشروع هو واحد من مشاريع كثيرة ينفذها إكبا لإدخال الكينوا في بلدان مختلفة، بما فيها مصر والهند وقيرغيزستان وباكستان واسبانيا وطاجيكستان والإمارات العربية المتحدة.