مما لا شك فيه أن كل شيء تقريباً في هذا الكوكب يعتمد على المياه، وقد حظي كوكب الأرض بنسبة مرتفعة من هذا المصدر الاستثنائي الكيميائي حيث تغطي المياه 70 في المائة من سطحه. وقد ضمنت المياه استمرارية الحياة على الكوكب لأكثر من ثلاثة مليارات سنة.
ومازالت المياه العذبة التي تشكل جزءا صغيراً لا يتجاوز 2.5 في المائة من مجموع كمية المياه المتوافرة تشكل مطلباً اساسياً للاستهلاك البشري والإنتاج الزراعي. إلا أن موارد المياه العذية آخذة بالانخفاض بشكل سريع تبعاً للعديد من العوامل التي تشمل تغير الظروف المناخية والنمو السكاني. الأمر الذي يدق ناقوس الخطر على الصعيد المحلي والوطني والعالمي.
وتشير التقديرات العالمية بأن حوالي 70 في المائة من المياه العذبة يستخدم لأغراض الري، و22 في المائة في الصناعة، إلى جانب 8 في المائة للاستخدام المنزلي. وبالنظر إلى كمية ما نحتاجه من المياه، فإن إنتاج كيلو واحد من لحم البقر يحتاج إلى 15000 ليتر من المياه، وكذلك فإنه لإنتاج كيلو من الأرز نحتاج إلى 1000-3000 ليتر من المياه، وحتى تحضير كوب من القهوة يحتاج حوالي 140 ليتر من المياه (ايفاد).
ومع مرور الزمن وحتى عام 2050، ستزداد الحاجة إلى هذه الموارد المحدودة لتلبي المليارات الإضافية من السكان حيث يستمر التعداد السكاني العالمي بالتزايد ويتوقع أن يرتفع بنسبة 31 في المائة ليرتفع من 7.5 مليار اليوم إلى 9.8 مليار في العام 2050 حسب ماورد في ورقة بيانات التعداد السكاني العالمي الحالية للعام 2017 الصدرة عن المكتب المرجعي حول السكان.
أضف إلى ذلك، مازالت موارد المياه تتأثر بشدة بدرجات الحرارة المتزايدة وغيرها من آثار التغير المناخي مما يتسبب بمشاكل خطيرة من قبيل موجات الجفاف ونقصان الأمن الغذائي وعدم الاستقرار السياسي. وتستدعي هذه التأثيرات السلبية على وفرة المياه تحركاً سريعاً لتخصيص واستخدام المياه بشكل أكثر ترشيداً والدعوة إلى سبل مستدامة لتحقيق الأمن الغذائي والمائي.
ولسوء الحظ، تشمل منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بعض من أكثر بلدان العالم هشاشة والتي تعاني من نقص المياه مما يفرض تحديات حرجة على صناع السياسات لضمان الأمن المائي والإدارة المناسبة للمياه في المنطقة.
وسعياً لتفادي المزيد من الأعباء على موارد المياه العذبة المحدودة، اتجهت العديد من البلدان وبخاصة بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بشكل متزايد لتطبيق طرائق لاستخدام موارد مائية بديلة مثل مياه البحر عوضاً عن المياه العذبة من خلال إزالة الملح من مياه البحر وهو ما يعرف بعملية تحلية المياه.
وعلى الرغم من نجاعة فكرة توفير موارد المياه العذبة باستخدام مياه البحر، إلا أنها باهظة الثمن. ولا ينحصر ذلك بارتفاع تكلفة عملية تحلية المياه فحسب، بل تتسبب المياه الناتجة عن عملية التحلية وهي مياه شديدة الملوحة وعالية التركيز والتي يتم إلقاؤها ثانية في التربة ومياه البحر بالعديد من المخاطر البيئية والصحية إلى جانب تأثيرات سلبية على الإنتاج الزراعي والنظم البيئية الحيوية. وتظهر التقديرات بأنه عالمياً يستخدم ما يفوق 8.7 متر مكعب من المياه المحلاة لأغراض الري كما يُنتج ما يربو على 3.5 مليون متر مربع من المياه شديدة الملوحة يومياً.
ويتوقع ارتفاع الطلب المستقبلي على المياه المحلاة في منطقة الخليج (Dawoud and Al-Mulla, 2012)، كما سينجم عن تأثير المياه الناتجة عن عملية التحلية عدم استقرار في مستويات الملوحة. وحيث ينتج عن عملية التحلية مياه شديدة الملوحة Bashititalshaaer et al. (2011)، فيتوقع بحلول العام 2050 ارتفاع مستويات ملوحة المياه في منطقة الخليج والبحر المتوسط والبحر الأحمر بشكل ملحوظ بمقدار 2.24 و0.81 و 1.16 غالون/ليتر. كما يظهر تقريراً آخر صدر حديثاً عن البنك الدولي بعنوان: ما وراء ندرة المياه – ندرة المياه في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا" بأن المياه شديدة الملوحة الناتجة عن محطات التحلية في منطقة الخليج قد تسببت بارتفاع ملوحة مياه البحر بنسبة 20 في المائة.
وعلاوة على ذلك، سيؤدي ارتفاع مستويات الملوحة في هذه البحار إلى إنتاج كميات أقل من المياه الصالحة للشرب من محطات التحلية باستخدام القدر نفسه من الطاقة مما يعني زيادة تكلفة عملية تحلية المياه.
وفي حين تبقى التحديات قائمة، تمتلك المنطقة الفرصة لتحري الابتكارات والتقنيات المتوافرة. وفي هذا الصدد، يقدم المركز الدولي للزراعة الملحية (إكبا) الذي يتخذ من دبي مقراً له إلى جانب شركائه كوزارة التغير المناخي والبيئة في دولة الإمارات العربية المتحدة حلولاً مبتكرة من خلال تحويل المياه شديدة الملوحة المرتجعة من محطات التناضح العكسي إلى مصدر قيم ومصدر للربح للمزارعين عن طريق منهج يدعى الزراعة النموذجية.
ويدير المركز هذا المشروع منذ العام ٢٠١٣ وحتى الآن تبدو النتائج مبشرة وقد أظهرت بأن الابتكار لا يحمي البيئة فحسب بل يمثل نموذج جيد جداً للأعمال بالنسبة للمزارعين في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وبخاصة رواد الأعمال الشباب.
ويحذر الخبراء من التغير السلبي في نوعية المياه في المنطقة مما يستلزم اجراءات فورية. ومما لاشك فيه بأن نوعية التربة والمياه قد تدهورت خلال العقد المنصرم وهو ما يؤكد ضرورة توجه المزارعين إلى نظم إنتاج أكثر ابتكارا واستدامة وتكيفا مع المناخ للتخفيف من القضايا المتنامية.
وتعتقد الدكتورة ديونيسيا ليرا، خبيرة في الهندسة الزراعية الملحية في إكبا وخبيرة رائدة في المشروع، بأن نظم الزراعة النموذجية توفر مزايا عظيمة لاستغلال المياه شديدة الملوحة في الزراعة المائية، واستخدام مياه البحر ومخلفات الزراعة المائية بطريقة مستدامة في زراعة النباتات الملحية (النباتات المحبة للملح) في المناطق الصحراوية الساحلية إلى جانب الجمع بين الخضروات والأعشاب والنباتات الملحية في المزارع الداخلية. ويوفر نهج الزراعة المائية هذا فرصاً اقتصادية للمجتمعات المحلية الزراعية باستخدام الأراضي المتدهورة لتحسين الإنتاج الزراعي.
ويقوم إكبا بدعم من الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية بالتعاون مع المعهد الدولي لإدارة المياه بدراسة الجدوى الاقتصادية للمزارع النموذجية. وقد بينت النتائج الحالية بأنه تبعاً للمزايا المتعددة للمياه شديدة الملوحة المعالجة تتوافر هناك امكانيات ضخمة في السوق فيما يتعلق بعوائد الاستثمار في المزارع الداخلية والساحلية حول الإمارات العربية المتحدة. فعلى سبيل المثال، ارتفعت إنتاجية الكتلة الحيوية الطازجة لنبات الساليكورنيا وهو نبات ملحي يستخدم لأغراض مختلفة في المزارع الداخلية من ٨ طن في الهكتار إلى ٢٤ طن في الهكتار باستخدام مخلفات الزراعة المائية. وبالمثل، ارتفعت الكتلة الحيوية الطازجة للأعلاف بمعدل 1.3 لترتفع من 56 طن في الهكتار إلى 75 طن في الهكتار.
وبالمثل، استخدمت مخلفات الزراعة المائية في المزارع الساحلية حيث أظهرت الدراسات التي أجراها إكبا ارتفاعا في إنتاج البذور لدى نبات الساليكورنيا بمعدل 3.25 طن/هكتار – وهي أعلى نسبة إنتاجية تم الحصول عليها من الأصول الوراثية للساليكورنيا المستأنسة اعتماداً على الوثائق. وعلاوة على ذلك، فإن محتوى المياه من النترات في مياه الزراعة المائية كان أعلى بمعدل 12 مرة بالمقارنة مع مياه البحر.
وتشمل فئة المستفيدين من هذا المشروع المبتكر، المزارعين من دولة الإمارات العربية المتحدة الذين يستخدمون محطات التحلية لري المحاصيل وكذلك المزارعين الذين يستخدمون المياه الجوفية المالحة في الاستزراع السمكي فضلاً عن المزارعين في المناطق الساحلية والمجتمعات الريفية الكائنة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والبحر المتوسط وآسيا الوسطى وأمريكا الجنوبية التي تعالج مشاكل تدهور الأراضي والتصحر وموارد المياه المالحة.
ونظراُ لأهميته البارزة في المنطقة، فقد حاز الابتكار على اهتمام ورعاية المنظمات الدولية والوكالات الحكومية. وفي هذا الإطار، قدم برنامج المنح المخصصة للابتكار المؤثر "لإكسبو لايف۲۰۲۰ منحة لإكبا لتنفيذ مشروع بحثي مبتكر في المزارع النموذجية في الأراضي الداخلية والساحلية في دولة الإمارات العربية المتحدة. ويأتي إكبا من بين ثلاثة منظمات من دولة الإمارات العربية المتحدة إلى جانب 29 مبتكر من كافة أنحاء العالم قد تمكنت من الفوز بهذه المنحة في الجولة الأولى من التمويل المباشر لإكسبو.
ومع تنامي التحديات حول العالم، تزداد الحاجة إلى الابتكارات من قبيل الزراعة النموذجية لضمان الأمن الغذائي والمائي والتغذية السليمة للأجيال القادمة. ومن ضمن العديد من المجالات الأخرى، تحتل دولة الإمارات الريادة في توفير الحلول الزراعية المستدامة مما يجعلها مثالاً يحتذى به للبلدان الأخرى.